
-
لطالما كانت الأغاني جزءًا من الذاكرة الجماعية لنا، نرددها صغارًا دون أن نفهم عمقها، ونبكيها كبارًا لأنها تلامسنا بطريقة لا يفعلها شيء آخر. فيها شعرٌ جميل، وإحساسٌ عالٍ، وصوتٌ يأخذك من واقعك إلى مكان آخر، أحيانًا أكثر دفئًا… وأحيانًا أكثر كذبًا.
لكني حين دخلت مجال علم النفس والاستشارات، اكتشفت الوجه الآخر لتلك الموسيقى الحالمة. هناك، في الجلسات النفسية، كنت أسمع قصصًا لا تنتهي عن الخذلان، والتعلق، والفراغ العاطفي، وأدركت أن كثيرًا من النساء لم يعشن الحب بقدر ما عشن فكرته، كما غنّته الأغاني.
⸻
الحب كما تصوره الأغاني:
منذ الصغر، تربّت معظم الفتيات على صورة واحدة للحب:
رجل شاعر، لا ينام إلا وهو يكتب لها، يغني لها، يشتاق بجنون، ويموت من غيرتها، ويبكي إذا خاصمته، ويعدها بأنها “أجمل ما خلق الله”… وكلما زادت الدراما زاد الحب!
فهل هذا هو الواقع؟
⸻
العاطفة في علم النفس:
في علم النفس، تُعد العاطفة جزءًا مهمًا في حياة الإنسان، لكنها تصبح مشكلة حين تطغى على الإدراك، وتُستخدم للهروب من الفراغ أو لخلق هوية مزيفة. كثير من النساء اليوم لا يعرفن ما يردنه فعلًا من العلاقة، بقدر ما يردن “الإحساس الذي يغنيه فلان”أو القصص التي يشاهدنها في المسلسلات.
إنهن لا يبحثن عن رجل، بل عن “مغنٍّ داخل رجل”عن شخص يعيش ليرضي خيالهن العاطفي، لا واقعهن النفسي والاجتماعي. وعندما تصطدم هذه التوقعات بالواقع، يبدأ الخذلان، وتتكرر نفس الأسئلة:
• ليه ما يحبني زي ما في الأغاني؟
• لماذا ماهو شاعر؟
• لماذا ماهو رومانسي؟
• هو يحبني لكن مثل
“اللي في الخيال”
⸻
الأغاني ليست حيادية:
الأغاني ليست حيادية، إنها تُبرمج المشاعر.
هي لا تكتفي بوصف الحب، بل تُحدد كيف يجب أن تشعر، ومتى، وكيف يكون الحب الحقيقي. الأغنية لا تقول لك فقط “أحبك”بل تقول لك أيضًا: إن لم يشعر بك بهذه الطريقة فهو لا يحبك!
وهنا تكمن الخطورة. لأن كثيرًا من النساء يُقمن علاقات على أساس عاطفي غنائي، لا واقعي. وحين لا تجد هذه “الدراما الغنائية” تظن أن العلاقة باهتة، وأن الحب انتهى أو لم يوجد أصلًا.
⸻
أثر هذا على الزواج والعلاقات:
• تصادم التوقعات مع الواقع
الرجل الحقيقي لا يملك كلمات شاعر جاهز، ولا يملك خلفية موسيقية. هو يحب، لكنه يُحبّ بطريقته: بخوفه، بصمته، بتحمله، برعايته، ولكن لا أحد يغني لهذا النوع من الحب.
• الفتاة تتعب لأنها لا تُرى إلا بعين الأغنية
تبحث عن مشهد رومانسي… ولا تنتبه للواقع الصادق الذي تعيشه.
• تُصاب بالاكتئاب لأن ما تحلم به لم يتحقق، لا لأنها لم تُحب فعلاً، بل لأن الحب لم يشبه “أغنيتها المفضلة”.
—:
وللأسف ..
ظهر دور المشاهير في ترسيخ الأوهام:
في هذا العصر الرقمي، لا يكتفي تأثير الأغاني والمشاهد التمثيلية وحدها بصناعة الوهم، بل يشاركهم في ذلك عدد من المشاهير ممن يعيشون حياة مزدوجة: مفلسون فكريًا، ومؤثرون رقميًا. ينشرون مقاطع
“حب والهدايا والسفر “، يصورون لحظات مصطنعة من العشق والدلال، ويبيعون أوهامًا مغلفة بلحظات تمثيلية معدة للنشر فقط.
ما تراه الفتاة على الشاشة ليس حبًا، بل منتجًا تسويقيًا. ثنائي يضحك أمام الكاميرا، وقد لا يطيق أحدهما الآخر خارجها. منزل مزين بالورود في الفيديو، وفي الحقيقة بيت خاوٍ من التفاهم. حياة تُعرض بدقة عالية، لكنها تفتقر لأدنى مستويات الصدق.
هؤلاء المشاهير، وهم ليسوا بالضرورة قدوات، يصدرون نماذج مشوهة للعلاقات. في عيون المتابعين، كل شيء سهل وجميل ورومانسي، دون مشاكل، دون مسؤوليات. فتبدأ الفتاة – وربما الرجل أيضًا – يقارن حياته الواقعية بتلك الحياة الملفقة، ويشعر بالنقص والخذلان دون أن يعلم أنه يقارن الصدق بالتمثيل، والحقيقة بالوهم.
هذه “العدوى العاطفية”تصيب العلاقة بالفتور أو الضغط، لأن الطرفين يحاولان محاكاة شيء غير موجود إلا على الشاشات
⸻
ختامًا:
أنا لا أُدين الأغاني لأنها ألحان وشعر، بل لأن كثيرًا منها غذّى أوهامًا عاطفية قاتلة، وجعلت المرأة أسيرة خيال لا يتحقق، وأسهمت – مع المحتوى الزائف الذي يقدمه بعض المشاهير – في حرمانها من تقدير الحب الواقعي، والحياة الواقعية.
الحب ليس كما يُغنّى دائمًا…
الحب أحيانًا يكون صامتًا، بسيطًا، غير لامع، لكنه صادق.
وهو في حقيقته، ليس وعدًا بالسعادة… بل شراكة في مواجهة الحياة.
ولأنكِ تستحقين حبًا حقيقيًا، لا تبحثي عنه في أغنية، ولا في مقطع سناب، بل ابحثي عنه في رجلٍ يخاف الله فيكِ، رجل يرى فيكِ شريكة للحياة لا مجرد مشهد رومانسي مؤقت.
وأعيدي هيكلة تصوّرك عن الزواج…
الزواج ليس “قصيدة حب”، بل مشروع حياة، وكيان اجتماعي عظيم، يستحق أن تُعمَلي فيه عقلك، لا فقط قلبك
اكتشاف المزيد من صحيفة صوت الوطن
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.