المقالات

العاطفة وتصادم الأجيال: عندما يتكلم القلب قبل العقل

د. محمد بن أحمد ابن غنيم المرواني

-

في أعماق كل أسرة، وفي تفاصيل الحياة اليومية بين الأصدقاء و بين الآباء والأبناء، يكمن عنصر حساس، لكنه جوهري: العاطفة.

إنها ليست مجرد مشاعر تمر بنا، بل هي طاقة داخلية قد تحيي أرواحًا، أو تشتت عقولًا، أو حتى تُحدث تصدعات في العلاقات الإنسانية إذا لم يُحسن التعامل معها.

العاطفة ليست حكرًا على جيل دون آخر. نعم، تختلف أشكالها وحدّتها بين الأجيال، لكن جوهرها واحد. حين نتحدث عن “تصادم الأجيال”، فإننا غالبًا ما نُحمّل الفروقات العمرية أو الفكرية المسؤولية، بينما الحقيقة أن العاطفة – خاصة حين تكون جياشة وغير مروّضة – هي السبب العميق والخفي في هذا التصادم.

حين تشتعل العاطفة…

عندما تبدأ العاطفة في الاشتعال، وتدق طبولها في صدر الإنسان، فإنها لا تنتظر العقل ليستأذنها. بل تسيطر عليه وتدفعه خلفها كما يقود فارسٌ فرسه. تصبح قرارات الإنسان آنذاك عاطفية صِرفة، حتى وإن توهّم أنها عقلانية. هذه الحالة شائعة عند الشباب، لكنها ليست حكرًا عليهم. فلكل إنسان “طفل داخلي”، وإذا استيقظ هذا الطفل، تاهت البوصلة، وغلب القلب على الحُكم، مهما بلغ الإنسان من العمر.

إن العاطفة ليست شعورًا عابرًا يمرّ بنا كما تمر نسمةُ صيفٍ في ظهيرة خانقة، بل هي قوة فاعلة تُعيد تشكيل الإنسان من الداخل، وتدفعه إلى تصرفات قد تسبق العقل وتتفوق عليه، وعندما تشتد العاطفة وتشتعل جذوتها في صدر الإنسان، فإنها تغلب المنطق، ويخال للفرد أن اختياراته عقلانية، بينما هي في حقيقتها قرارات منسوجة بخيوط قلبه ومشاعره.

العاطفة عند الشباب

لعلّ أكبر التحديات التي تواجهها الأسرة اليوم هي حين يقع أحد أفرادها، لا سيما من الجيل الأصغر، في قبضة عاطفةٍ جياشة، لا يُجدي معها نصحٌ مباشر ولا يُفيد فيها توجيهٌ قاطع. هنا يصبح التصادم مفسدة، لا يُولد إلا العناد، ويُعزز الانفصال، ويكسر الجسور بين القلوب.
العاطفة في جوهرها ليست خطأً، بل هي جزء من إنسانيتنا. غير أن خطورتها تكمن حين تسيطر، لا حين ترافق العقل. فالشاب في مقتبل العاطفة، قد يرى الدنيا من خلال مشاعره لا من خلال الواقع، ويظن أن كل من يخالفه لا يفهمه، أو يقف ضده. أما الأب أو الأم، فغالبًا ما يقفون على ضفة التجربة والخبرة، يُحاولون التحذير أو التوجيه، فيصطدم خطابهم بصخرة العاطفة الصلبة.
الوعي بالعاطفة، وفهم طبيعتها، والتعامل معها بصبر لا بعنف، هو الطريق الوحيد لحماية النسيج الأسري من التمزق. فالتفاهم والاحتواء، لا القمع والتسلط، هو ما يصنع التوازن بين الأجيال. والحوار الهادئ، لا الوعظ المتعالي، هو ما يُقيم جسور الثقة بين الآباء والأبناء، وبين الراشدين والشباب.
تتمثل الحكمة في الميل إلى العقل دون خنق العاطفة، واحتضان العاشق دون السخرية من ضعفه، ونصح المُندفع دون إشعاره بالذنب. فكلّنا مررنا بحالة يكون فيها القلب سيد الموقف، والعقل مجرد تابع.

العاطفة عند الكبار: الجانب الإيجابي

وللعاطفة عند الكبار وجهان؛ وجه مضيء، وآخر معتم. فهناك من يحتفظ بروحه المرهفة مع تقدم السن، يفيض بالحب، ويمنح من حوله دفئًا يشبه شمس الصباح. هذا الشخص يكون عادة إيجابيًا، رقيقًا، عذب الحديث، يملأ المكان بهجة وأملاً.

هؤلاء الأشخاص يُشبهون سمفونيات عاطفية تمشي على الأرض، ينثرون الفرح، ويحتضنون الآخر بقلوبهم قبل أذرعهم. التعامل معهم متعة، ويُستحسن ألا نُحاول تغييرهم أو “تقنين” عواطفهم، بل الأجمل أن نستمتع بعطائهم ونُقدّر نُبل شعورهم، لأنهم يضيفون للحياة نكهةً لا تُشترى.

العاطفة عند الكبار: الجانب السلبي

لكن في المقابل، هناك من تُثقلهم مشاعرهم، ليس لأنها قوية، بل لأنها سوداء، قاتمة، تتغذى على النكد والاتهام واللعب على وتر المظلومية. هذا النوع السلبي من العاطفة هو ما يمكن وصفه بالمدمّر الهادئ. هؤلاء الأشخاص يفسرون كل تصرف بريء على أنه إساءة، وكل تأخر على أنه خذلان، وكل اختلاف على أنه خيانة. يتقنون لعب دور “الضحية”، ويجعلون من حولهم دائمًا في موقع “المتهم”.

في مثل هذه الحالات، قد يكون الابتعاد المؤقت أو تقنين العلاقة هو الحل. لأن الشخص المتخم بالعاطفة السلبية يبتلع كل من حوله، ويستنزف طاقاتهم، ويزرع الشك والضيق حيثما حلّ.

بين العقل والعاطفة… مسافة نجاة

إن التوازن بين العاطفة والعقل هو ما يصنع نضج الإنسان. ولا يمكن لأي مؤسسة – سواء كانت أسرة أو صداقة أو حتى مجتمع – أن تستمر في سلام ما لم يكن هناك وعي بهذه الديناميكية الحساسة. الاحتواء والنقاش والحوار الهادئ هي مفاتيح العبور إلى قلوب من تحركهم العاطفة، بينما التصادم والتحدي المباشر لا يؤديان إلا إلى تفكك العلاقات وخسارة الأفراد.

حين ترى إنسانًا، شابًا كان أو كبيرًا، تسيّره مشاعره كأنها سيدة متسلطة تمسك بخيوط قراراته، لا تتعالى عليه بنصائحك، بل اقترب منه، أنصت له، وافهم لغته القلبية قبل أن تخاطبه بعقلك. وإن أردت أن تُرشده، فافعل ذلك بلغة المحبة، لا بلغة الاتهام.

في النهاية، كلنا بشر، وكلنا نمر بلحظات نُصاب فيها بداء العاطفة الجياشة، فلا تكن قاسيًا على من ابتُلي بذلك. بل كن له عين العقل، وصوت الحكمة، وجسر النجاة.

فالقلوب حين تشتعل، لا تبحث عن من يُطفئها، بل عن من يحتوي نارها برفق.


اكتشاف المزيد من صحيفة صوت الوطن

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سعادة الشيخ الدكتور الكاتب المبدع محمد بن أحمد آل حامد بن غنيم المرواني الجهني حفظه الله
    من المفاخر التي افخر واعتز بها معرفة هذا الرجل الرمز فهو صديق مقرب تعلمت منه الوفاء والكرم والنخوة والمصداقية والوضوح والكثير من السحايا والمزايا الذي اجتمعت في هذا الرجل الكريم الذي يحمل صفاء السماء وطهر الماء ونعم الرجل النقي التقي تلمس فيه تواضع العظماء ونقاء الأتقياء متحدث لبق يآسرك بجمال حديثه وسلاسة لغته مثقف وكاتب وأديب مذهل وهذا قليلٍ من كثير عن هذا الرجل الفذ النبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com