المقالات

اللين… أسلوب حياة كيف تحمي حياتك  

بقلم: د. محمد بن أحمد ابن غنيم المرواني

-

في زحام الحياة وتقلباتها اليومية، كثيرًا ما نتعرض لمواقف وأحداث تخرجنا عن طورنا، تُربك مشاعرنا، وتختبر قدرتنا على التحمل. لا أحد منا معصوم من الغضب أو الانفعال، ولا يكاد ينجو أحد من المواقف التي تستفز أعصابه وتستثير انفعالاته. إنها لحظات دقيقة، قد لا تتجاوز دقائق معدودات، لكنها قادرة على أن تصوغ مصيرًا، أو أن تهدم عمرًا من البناء العاطفي والإنساني. من هنا تنبع أهمية اللين، لا كخيار سهل، بل كفلسفة حياة تستحق أن تُعتنق.

 

كم من شخص غضب فقال كلمة لا تُمحى، لا بالاعتذار ولا بالندم، كلمة شقّت بيتًا، أو قطعت رحمًا، أو أطفأت وُدًّا استمر سنين. وكم من شخص انساق خلف مشاعره الملتهبة في لحظة انفعال، فأتلف شيئًا جميلاً بناه بعقله وجهده وصبره. وكم من شخص تصرف وهو غاضب، ثم عضّ أصابع الندم حين هدأت عاصفة المشاعر، لكنه وجد أن الأوان قد فات.

 

هذه ليست أمثلة عابرة، بل شواهد تتكرر في تفاصيل حياتنا اليومية. الغضب، إذا تُرك بلا كبح، يتحول إلى إعصار يفتك بالعقل والروح والعلاقات. ولهذا، كان التوجيه النبوي الكريم: “لا تغضب”، اختصارًا لطريق الهلاك، ودعوة إلى التوازن والسلام.

 

إن اللين ليس مجرد ردة فعل عابرة، بل هو أسلوب حياة، وفلسفة راقية في التعامل، وموقف إنساني يتطلب شجاعة أخلاقية وعمقًا في الفهم. اللين لا يعني الضعف، كما يتوهم البعض، بل هو ضبط للنفس في أوج قوتها. حين قال رسول الله ﷺ: “ما دخل اللين في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه”، لم يكن يضع توصية تربوية فقط، بل كان يرسم طريقًا متينًا للاستقرار النفسي والاجتماعي.

 

عندما نُستفز أو نتعرض لظلم أو إساءة، فإن الغضب يتربص بنا، والرد العنيف يبدو مغريًا. ولكن من يتأنّى، ويأخذ خطوة إلى الوراء، ويتأمل الموقف بعين الحكمة، سيجد في اللين طريقًا يحقق له كرامته، دون أن يكسر الآخر. فاللين لا يُقصي الحقيقة، بل يُقدّمها في ثوب من الرحمة والاحترام.

 

لكن أين ذهبت تلك المودة التي كانت تجمعنا؟ وأين اختبأ التسامح الذي كان يخفف ثقل الخلافات؟ أين الرحمة التي كنا نستشعرها في نظرات بعضنا، والاحترام الذي كان يسبق الحوار؟

لقد غابت هذه القيم شيئًا فشيئًا من سلوكياتنا اليومية، حتى بتنا نتعامل بجفاء، ونردّ بقسوة، ونُحمّل الآخرين فوق طاقتهم. نُطالب بالكمال، ولا نحتمل الزلل.

أليس من حق الإنسان أن يُخطئ؟ أليس التسامح قيمة إنسانية وركيزة دينية وأخلاقية؟

حين نفتقد الرحمة في أعماقنا، يتوحش اللسان، وتضيق الصدور، ويصبح أبسط خلاف شرارة قطيعة.

وها نحن ندفع ثمن غياب المودة، بتفكك الروابط، وتزايد الشك، واتساع المسافات بين القلوب.

 

اللين يبدأ من داخلنا… حين نهدأ، ونُراجع أنفسنا، ونفكر: هل الطرف الآخر كان يقصد الإساءة حقًا؟ هل كنت متسرعًا في حكمي عليه؟ وهل الوقت مناسب للنقاش؟ وعندما نكتشف أن المشكلة يمكن حلّها بكلمة طيبة، وبنبرة هادئة، نكون قد اخترنا الطريق الأصعب والأشرف في آنٍ واحد.

 

في مجتمعاتنا اليوم، نحن بأمس الحاجة إلى اللين، لا سيما في زمن باتت فيه القلوب ضيقة، والكلمات سريعة، والانفعالات متفجرة. نحتاج إلى أن نلتمس الأعذار للناس، وأن نحسن الظن، وأن نؤجل العتاب إلى حين يهدأ الغضب، وأن نواجه الأخطاء بموازين العدل لا بمطارق الانتقام.

 

فلنجعل اللين منهجًا في التفكير، وسلوكًا في التعامل، وأسلوبًا في الحديث، وموقفًا في الأزمات. لِنُربّي أبناءنا عليه، ونعلمهم أن الكلمة الطيبة، والهدوء، والرحمة، قادرة على إصلاح ما تُفسده العواصف.

 

ختامًا… اختر اللين، لا لأنه الأسهل، بل لأنه الأجمل. لأنه لا يُكسبك معركة مؤقتة، بل يبني علاقة دائمة، و يحمي حياتك من العواصف المدمرة ، ويمنحك سكينة لا تُقدّر بثمن.


اكتشاف المزيد من صحيفة صوت الوطن

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سعادة الأخ العزيز والصديق الكريم الوفي الشيخ الدكتور محمد بن أحمد آل حامد بن غنيم المرواني الجهني
    بارك الله فيك ونفع الله بك وبعلمك وبقلمك الذي ينبض بالجمال والحكمة والنصح والتوجيه والإرشاد
    في الحقيقة والواقع أن مقالاتك تلامس الواقع المعاش والحال الذي نحن عليه وتأتي دوما بمثابة الوصفة العلاجية التي تحمل البلسم الشافي وماهذا إلا توفيق من الله سبحانه وتعالى
    حقاً أنت موفق جدا ماشاء الله تبارك الله في الطرح الرائع والجميل والذي يحاكي الواقع ويلامس المشاعر ولايوفق لذلك
    إلا إنسان موفق له مع الله خبيه
    وكتب الله له القبول فهنيئاً لك بما أنعم الله عليك من توفيق وقبول وأرجوا من الله العلي القدير أن يزيدكم من فضله
    ودمت بحفظ الله ورعايته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com