
-
مقالتي ليست بمسبوقةِ غيرها ، ولكنها خواطر مرت فأردت أن استعين لها بغيرها ، وأقصد من الكتاب والسنة ، ومما قاله من قبلي وتحدث عن هذا الموضوع الهام والمهم في حياتنا كبشرٍ جميعاً
، سأكتب مُحرجاً عن هذا الموضوع الجميل والذي ذكره العزيز الرحيم في كتابه الكريم وأثنى على من يقوم به ابتغاء الأجر والثواب ، ودرء الفتن واتساع الفجوات ، ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد وعد صاحبه بأجر كبير إن هو صبر في ذلك وصدق في سعيه ونطق كلامه ” ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة ” صحيح أبي داود .
مقالتي عن فضل (الصلح والإصلاح بين الناس ) ، هذا العمل الشاق الجليل ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ ، وكيف وقد أُمرنا به ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ إنَّ من يقوم به ويتحمل في ذلك ما يصيبه من أذى بالقول أو اللمز والهمز فله أجرٌ عظيم .
يقول ابن عطية : مؤكداً اطراد هذه القاعدة ـ: (وقوله تعالى: {والصلح خير} لفظٌ عام مطلق، يقتضي أن الصلح الحقيقي ـ الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ـ خيرٌ على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة .
يقول العلامة السعدي : “ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى: أن الصلح بين من بينهما حقٌ أو منازعة ـ في جميع الأشياء أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح .
وهو : أي الصلح جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حراماً أو حرم حلالاً، فإنه لا يكون صلحاً، وإنما يكون جوراً .
يقول أحدهم : ” فالصلح تهبُّ به على القلوب المتجافية رياحُ الأنس ونسماتُ النَّدى، الصلحٌ تسكنُ به النفوسُ، ويتلاشى به النزاعُ، الصلحُ نهجٌ شرعيٌ يُصانُ به الناسُ وتُحفظُ به المجتمعات من الخصام والتفككِ. بالصلح تُستجلب المودات وتعمر البيوت ” انتهى .
وكما قال شوقي : المصلحون أصابعٌ جمعت يداً * هي أنت، بل أنت اليدُ البيضاءُ
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: ” وأنه ينبغي للمؤمنين الإصلاح فيما بينهم، فإذا تنازع اثنان أو جماعة أصلحوا بينهم؛ لأن المؤمنين إخوة، والصلح من شأن الإخوة، كما قال تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ، وقال تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } فالإصلاح بين الناس فيه مصالح كثيرة، وقطع الشحناء، وقطع الخصومة، والتأليف بين القلوب، ذلك هو الصلح الذي يكون عن تراضٍ وتكون القلوب فيه طيبة، ويسلم الناس من الشحناء التي تحصل بسبب الخصومات والأحكام .
فالمشروع للمؤمنين فيما بينهم الإصلاح مهما أمكن، وعدم إلجاء الخصمين إلى المخاصمة لدى المحاكم، بل يصلحون بينهم، فهذا يتنازل عن شيءٍ، أو هذا يُؤجِّل أو يسمح بشيءٍ من حقِّه، أو ما أشبهه، أو يساعدونه في شيءٍ حتى تكون المسألةُ بين الجميع على وجه التناصح بينهم، والتعاون، وعدم الإلجاء إلى الأحكام، فالصلح فيه خيرٌ عظيم، وفيه مصالح كثيرة ” انتهى .
يقول ( بهاء الدين زهير ) :
تَعالوا بِنا نَطوي الحَديثَ الَّذي جَرى وَلا سَمِعَ الواشي بِذاكَ وَلا دَرى
تَعالوا بِنا حَتّى نَعودَ إِلى الرِضىوَحَتّى كَأَنَّ العَهدَ لَن يَتَغَيَّرا
وَلا تَذكُروا ذاكَ الَّذي كانَ بَينَناعَلى أَنَّهُ ما كانَ ذَنبٌ فَيُذكَرا
نَسَبتُم لَنا الغَدرَ الَّذي كانَ مِنكُمُفَلا آخَذَ الرَحمَنُ مَن كانَ أَعذَرا
لَقَد طالَ شَرحُ القالِ وَالقيلِ بَينَناوَما طالَ ذاكَ الشَرحُ إِلّا لِيَقصُرا
مَتى يَجمَعُ الرَحمَنُ شَملي بِقُربِكُموَيَصفو لَنا مِن عَيشِنا ما تَكَدَّرا
سَأَذكُرُ إِحساناً تَقَدَّمَ مِنكُمُوَأَترُكُ إِكراماً لَهُ ما تَأَخَّرا
مِنَ اليَومِ تاريخُ المَحَبَّةِ بَينَنا عَفا اللَهُ عَن ذاكَ العِتابِ الَّذي جَرى
ولنا في سيرة المصطفى أعذب المواقف وأصدقها في امتصاص الغضب ، وإدخال السرور لقلب من به غضب فقد جاء عن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله ﷺ بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك ؟ قالت : كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي -لم ينم القيلولة- وخرج من البيت، فقال رسول الله ﷺ لإنسان: انظر أين هو فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله ﷺ على علي وهو مضطجع قد سقط رداءه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله ﷺ يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب. . رواه البخاري.
قد يحصل على البعض وأقصد ( المصلحين ) بعض الأخطاء سواءً شتمٌ أو سبُ أو قذفٌ ، وذلك من فوران الدم وتهييج الشيطان لذلك بقصد إيجاد عداوة جديدة غير التي أتوا من أجلها ( وفي هذه المواقف الحاسمة تتجلى أهمية العقل والحكمة ، وذلك بالصبر على ما سمع وتعرض له حتى تبقى حبال الأواصر متماسكة لا يقطعها الشيطان بينهم ) ، فمن حلف أن لا يتدخل بين اثنين، مما رأى وتعرض له من المشكلات التي لحقته ، وأنه لا يتدخل مرة أخرى، فلنقل له تذكر { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
والحمد لله فالمصلح على خير وإن لم يوفق لشيء ما دامت نيته صافيه لا سم فيها ولا عَوَج ، وأنه مهما قال وهدفه الإصلاح فهو على خير بإذن الله ” قال صلى الله عليه وسلم:(لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْراً أَوْ يَقُولُ خَيْراً) رواه أحمد ، قال أحد العلماء: (إن الله أحب الكذب في الإصلاح وأبغض الصدق في الإفساد ) .
قال الإمام الشافعي-رحمه الله-:
الناس بالناس ما دام الحياة بهم ** والسعد لا شك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل ** تقضى على يده للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف من أحد ** ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت ** إليك لا لك عند الناس حاجات
أيها القارئـــــــ( ة ) الكريمــــــ ( ة ) : أوصانا الله فقال { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } فهذه من سنن الله وجود الخصام ، والشحناء ، وأيضاً إبليس الرجيم ومحاولاته الإيقاع بين المسلمين وتفرقتهم وإغاضة قلوبهم على بعضهم ،وخصوصاً بين الأقارب ، وما ذاك إلا ليضعف إيمانهم ويسهل عليه اختراقهم بالفتن والشرور ، فهنا يبرز دور العقلاء وأهل الحكمة ليتدخلوا للإصلاح ورأب الصدع بين المتخاصمين ، فلا يجوز أن يكون هناك بيوت من المسلمين متقاطعة، وأقارب لا يدخل بعضهم على بعض، ولا يذهب بعضهم إلى بعض في العيد، ولا في غيره، تقطعت بهم الأسباب في الدنيا، هذا حري أن تتقطع بهم في الآخرة إذن .
ليته طلبني حق واعطيه حقينوإن صابني حق عطيته مية حق
وألا تسامحنا على الخاطر الزينسبحان ما دمنا تحت لايح البرق
وفي الختام على المصلح أن تكون نيته خالصة لله عز وجل ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾، وأن يكون همه العدل والمساواة وحل الخلاف دون جور أو محاباة ، ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ، وأن يتريث حتى تهدأ نارُ الفتنة التي بينهم ثم ليبدأ مسيرة الإصلاح ، وله الحق بقول ما يشاء من مدح وثناء لأحدهما عند الآخر ، وأن يتقول بما يسعد به السامع من لسان خصمه ، وأنه في ذلك مثاباً بإذن الله عز وجل .
فهنيئاً لمن جعله الله من خيار الناس، الساعين في الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم . اللهم طهر قلوبنا من الغل والحقد والشحناء والبغضاء
ثُمَّ الصَّلاَةُ عَلَى المُختَارِ سَيِدِنَا * وَأَفَضلُ القولَ قولٌ هكذا خُتِمَا .
اكتشاف المزيد من صحيفة صوت الوطن
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.