العم عبدالله خيران رحيلٌ بهدوء
تعبرنا لحظاتٌ لم نكن ندركُ يوماً ، أننا ملزمون باستدراجِ الذاكرةِ وتقليبِ زواياها الموصدة خلف أبواب النسيان ؛ كي نستعيدَ من كفوفها ذكرياتنا وربما حتى آخر ملامح الوجع فينا ،ولكن في لحظات الموت تجبرنا رحلة العبور نحو الماضي أن نكون أكثر صداقةً ووفاءً مع ذكرياتنا ، وقد نكون أحياناً أكثر قسوةً في استرجاع تلك الزفرات الآتية من تفاصيل أيامنا وسنواتنا التي لم تعد قابلةً للرجوع .
ولكن الحدث الأكثر إيلاماً في حياتنا والذي يجعلنا نمضي بلارحمةٍ إلى ذاكرتنا هو (الموت)، لنعود من بين أحزاننا إلى ابتسامات الراحلين وأحاديثهم وحضورهم وحتى صمتهم الممتلئ بغيابهم!
العم ( عبدالله خيران) بالأمس رتّبَ الموتُ معه موعده الأخير ، فرحل كما يرحل البسطاء بصمتٍ وهدوء ، دون حديث التأبين القادم من ألسنة الناس وحشودهم، فالعم عبدالله خيران _ يرحمه الله_ رغم بساطة الرحيل وصدمته إلا أنه استوقف ذاكرة أجيال ونثر من طي أحزانهم أكثر من أربعين عاماً من رحلة الحياة معهم.
في (حافلته الخضراء) التي كان يستقلها كل صباح لأكثر من أربعة عقود ، لم نكن نعلم أن تلك الرحلة هي توثيقٌ لمراحل التعليم في محافظة المجاردة ، وأنه وثيقة تاريخية كانت تجوب قُرانا وشوارعنا وتمضي من بين ممرات منازلنا، لم نكن ندرك يوماً أن ذاك ( البوري) الذي كان يهتف به لطالبات المدارس هو معزوفةٌ صباحيةٌ خالدةٌ سنشتاق لها يوماً ما، فالتفاصيلُ البسيطةُ التي كانت تعبرنا صباحاً ونلمحها في ظهيرة كل يوم، كانت مواعيد تمضي لتأخذ معها تحولات الحياة وملامح الأيام !
العم عبدالله خيران لم يكن مجرد قائد حافلة ، بل كان مرادفاً لمعنى الحياة وصناعة الأمل وملازماً لأجيال من طالبات التعليم العام في محافظة المجاردة.
فكان شاهداً من شواهد التحول في مسيرة التعليم، رافق طالباتنا ونثرَ الكثيرَ من روح الأبوة في أيامهن ، رغم مرارة الوجع والحرمان التي تسكنه ، إذ لم يرزق بذرية تؤنس أيامه وسنواته، فمنح بناتنا فيضاً من دفء الأبوة والرعاية والهدوء والطمأنينة لهن كل صباح، وكأنه نسمةٌ باردةٌ تمسح براحتيها رتابةَ الحياةِ في لحظاتهن !
( فالحافلة الخضراء) كانت شاهدةً حتى على تطور حياتنا العمرانية، فمرّت من أمام منازلنا الشعبية البسيطة ، ومن أمام النوافذ الخشبية ، ومضت مع رحلة العمر لتعبرَ من أمام دور سكنية وفلل حديثة ، فاستقلها جيل من الطالبات بمراييلهن الرمادية ، لم يعرفوا سوى التلفاز أنيساً لهن في الحياة، ثم رَكِبَ في تلك الحافلة جيل التقنية في زمن التكنولوجيا ، اختلفت الوجوه ، وتبدلت حياة الناس ، وتحولت كثير من المفاهيم والنظريات ، وبقي الشاهدُ واحداً العم عبدالله خيران.
مرّت سنواتٌ وهو ينثرُ الحياةَ في طرقاتنا ، يجمعُ من بين منازلنا أرتالاً من الطالبات ، ليحملهن بكل سعادة إلى مقاعد الدراسة ، فالشعورُ بالأمان معه كان حالةً ربما لن تتكرر في تاريخ النقل المدرسي في المجاردة.
ولأن العم عبدالله خيران _ يرحمه الله_ شاهدٌ على العصر في رحلة الحياة وتحولاتها التعليمية ، فالحافلةُ الخضراءُ التي غادرنا قائدها بالأمس ، لم تكن مجردَ مركبةٍ للنقل المدرسي ، بل كانت مدرسةً للقيم والرعاية وحتى التأديب، لأنه يدرك أن تلك الأصوات الصغيرة التي تملأ يومه سعادة هي العوض الذي منحه إياه رب العالمين ، فتلك الوجوه منفذٌ يعبر منه نحو الأمل والحياة.
التقيته في حديث قبل أشهر وكعادته يأسرك بثقافته ودرايته وعمق نظرته.
رحَلَ وبقي خالداً في أحاديثنا وذكرياتنا ، رحَلَ بعد أن أخذ معه زمن لن يعود، فهو القصة الأكثر ثباتاً في عقول طالبات مدارس المرصد، فالحافلة الخضراء التي أقلّت الطالبة حتى باتت معلمةً فأمّاً ، هي ذاتها التي احتضنت أطفال أمهات الرعيل الأول من طالبات مدارس المرصد!
فقد كان شريكاً في منظومة التعليم وتطوره عبر رحلة خالدة مليئة بالتفاصيل ، مابين روح القرية وهدوئها إلى شوارع الأحياء وصخبها.
العم عبدالله خيران كتَبَ كل هذه الملامح في حياتنا دون أن نعي يوماً أن هذا الممتلئ بالهدوء والحياة سيكون بحافلته الخضراء هو الاشتياق الأول لنا حين تهزمنا سطوة الحياة ومرارتها.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
(ومضة)
سعادة مدير مكتب التعليم في محافظة المجاردة الأستاذ أحمد عبدالرحمن الشريف، نحن زملاؤك في الميدان التربوي ندرك حرصك على الاهتمام والمتابعة والإشراف على منظومة العملية التعليمية وأدواتها وطرقها ، وتقديرك لكل الذين قدموا جهوداً وأعمالاً جليلةً في مسيرة التعليم ، لذا آمل من سعادتكم أن يتم الاحتفاظ (بالحافلة الخضراء) التي كان يقودها العم عبدالله خيران يرحمه الله في متحف التعليم بالمجاردة ، فهي شاهدةٌ على التعليم في المحافظة بكل مراحله وتطوراته، وأنا أدرك أن هذا النداء سيكون محل اهتمامكم ورعايتكم.
محمد الفقيه الشهري
كاتب وأديب
أبداع في كل شي تقوله يامحمد الشهري