
-
في بعض المجتمعات، كثيرًا ما تتردد عبارة “كسر الخاطر”، كأنها كلمة عابرة، بينما هي في الحقيقة وصف دقيق لجرحٍ خفي، لا تراه العين لكنه يوجع القلب. هي ليست مجرد تعبير، بل حالة إنسانية كاملة، تهز أركان النفس وتبدّل حال الإنسان من الداخل، دون أن تظهر بالضرورة على ملامحه.
لكن ما هو الخاطر؟
الخاطر هو وعاء النفس الرقيق، ذلك الإناء الشفاف الذي يحتفظ للروح بشكلها المثالي داخل الجسد. هو الصحة المعنوية للذات البشرية، وهو المجسّم الزجاجي الهشّ الذي تتكوّن منه صورة الإنسان المتألقة حين تتناغم روحه مع جسده، وتتوافق رغباته مع قيمه، فتراه سعيدًا، مطمئنًا، متصالحًا مع نفسه، منسجمًا مع من حوله. إن الخاطر السليم هو السرّ العميق خلف الاتزان والسكينة، خلف تلك النظرة المضيئة والابتسامة الدافئة التي تسبق الكلام.
لكن، ولأن هذا الوعاء مصنوع من الزجاج، فإنه قابل للكسر. وقد يكون الكسر صامتًا، بلا ضجيج، لكنه يترك شرخًا داخليًا كبيرًا، لا يُجبر بسهولة.
الأشد إيلامًا أن كسر الخاطر لا يأتي من بعيد. فالضربات القاسية لا تتسلل من المجهولين، بل تأتي من الأقرب، من أولئك الذين نحبهم ونرفعهم في دواخلنا إلى مكانة لا يصلها سواهم. فكلّما اقترب الإنسان منا، زاد خطره على خاطرنا. وكلّما علت مكانته في قلوبنا، كانت كلماته وتصرّفاته قادرة على إما ترميمنا أو هدمنا.
فكلمة في لحظة غضب، تصرف مهمل، نظرة لامبالية، أو حتى صمت غير مبرر، قد يكون كافيًا لهدم ذلك الوعاء النفسي الهشّ الذي يضبط توازننا.
إنه لأمر مدهش، أن ترى الجندي في الحرب، وسط الرصاص والموت، صلب الخاطر، لا يتزعزع. بينما رجلٌ حكيمٌ، عاقلٌ، ناجحٌ، عالمٌ، يكسره حبيب أو قريب بكلمة، نظرة، أو غياب.
الأحبة… هم أكثر الناس قدرة على كسر الخواطر.
فإذا انكسر الخاطر، تاهت الروح، وتبعثرت المعنويات، وضعفت القوة، وانهارت الطمأنينة. ذلك لأن النفس، حين تفقد شكلها المثالي وتنفرط مكوناتها، تفقد معها تماسك الإنسان. فيبدو كما هو في شكله الخارجي، لكن بداخله صحراء من الخذلان.
ومن هنا، ينبغي أن نكون أكثر وعيًا بأفعالنا وكلماتنا وتصرفاتنا تجاه من يحبنا. لا تكسروا خاطر من رفعكم في قلبه إلى علياء، ولا تقلّلوا من شأن من جعلكم مصدر سعادته. احذروا من قسوة اللحظة، ومن جفاف التعبير، ومن برودة الرد… فكل هذه السهام قد تصيب موضعًا هشًا لا يحتمل.
تذكّروا دومًا أن كسر الخاطر لا يُرى، لكنه يُشعر، ويُنزف بصمت، وقد لا يُشفى.
وأن العلاقة التي بُنيت على محبة، وثقة، وأيام، لا تستحق أن تُهدَم بكلمة، أو تُطفأ بتجاهل.
في زمن يشتد فيه البرد على الأرواح… كن دفئًا.
وفي زمن تتكاثر فيه كسور الخواطر… كن جابرًا لها، لا كاسرًا.
فلنختر كلماتنا بعناية، ولنلزم الرحمة في الغضب، والحلم في الاختلاف، ولنكن أكثر رفقًا بمن نحب. فالحب، والصداقة، والعِشرة، ليست أمورًا تأتي في يوم وليلة، بل هي بناء طويل، لا يصمد إلا بحسن الرعاية، ونعومة القلب، وصدق العطاء.
اكتشاف المزيد من صحيفة صوت الوطن
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.