المقالات

رَحَلَ رَجلُ الكيمياءِ

محمد علي الفقيه الشهري -

في فصلنا الدراسي حين كنا في مقتبل العمر وفي خطواتنا الأولى نحو التعليم الثانوي، كَتَبَ بخطٍ عريض ملأ به السبورة الخضراء ، ( لماذا ندرسُ الكيمياءَ؟ ) ، نحن آنذاك لم ندرك بَعْد عمقَ الأسئلةِ التي تأخذنا للتفكير والتحليل واستخلاص النتائج ، كانت عقولنا نديّةً هادئةً رُغم سرعةِ البديهةِ وإتقان المهارات بشكل مذهل ، جاء إلينا معلمُ الكيمياءِ ( عبدالله جابر ) وكنا في تلك الفترة لم نشهد معلمين وطنيين كُثُر في التخصصات العلمية ، جاء من أقصى الحلمِ والطموحِ مشبوباً بالتفاؤلِ والحياةِ ، وكأنه يحملُ بين كفيه روحاً مختلفةً ، كنا في الصفِ الأولِ الثانوي أنا وأبناء جيلي _ لا أعرف أين أخذتهم الحياة الآن ، ولكنني أعرف أن منهم ضباطاً ومعلمين ومهندسين وقُضاة _ فكنا نتسابق لإثبات الكفاءة العلمية والقدرات العقلية أمام المعلمين السعوديين ، حضر معلم الكيمياء ليطرح ذاك السؤال وكأنه يستفز عقولنا ويأخذنا للضفة الأخرى من مسارات التعلم ويضع فوق سبورة فصلنا الخضراء وطاولاتنا الخشبية مهترئة الزوايا نوعاً آخر من طرق التعلم وأساليبه المختلفة ، عبدالله جابر ابن قرية ( الحَدَبة) بسوق الاثنين ، كان شاباً مليئاً بالحياة ، معلماً مختلفاً يملؤك بالأسئلة المحيّرة ، كان حديث التخرج من جامعته ، وهو من القلائل من أبناء جيله الذي تمرّد على واقعه الدراسي في قريتنا فلم يتجه نحو معهد المعلمين ، رغم أن عبور الطريق نحو مهنة التعليم آنذاك لاتحتاج سوى ثلاث سنوات بعد المرحلة المتوسطة ليصبح معلماً من خلال مقاعد الدراسة في معهد المعلمين والذي خرّج جيلاً مذهلاً من أبناء الوطن.
عبدالله جابر التقيته ذات مرة بعد عقدين من الزمن بعد رحلة الحياة التي أخذتنا نحو مفترق طرق بالنسبة لي كانت معقدةً وشائكةً ، ربما لم نكتب نحن خطواتها كما نريد لكن كانت الرحلة كما شاء لها القدر أن تكون ، عبدالله جابر فذٌ في لغة الحوار ويملك ذكاءً خارقاً ونظرةً تحليليةً عميقةً في قراءة مايدور حوله، كان تربوياً بارعاً يحاورك دون أن يتسلل البرود والملل إليك ، يستفز عقلك بالإجابات ويستنطقك بالحديث ، تستعذب لغته وثقافته وحضوره ، يصمت ويدهشك صمته حين تلمح في عينيه لغةً وثقافةً وحواراً مختلفاً ، فالحلم الذي يسكنه ، والآفاق التي يرى أنها الأنسب والأكثر ملائمة لآماله لم تتوقف عند التدريس وتعليم النشء في مادة الكيمياء، فالشاب الكيميائي عبدالله جابر كنا نراه مختلفاً لأنه لم يعتد أن يكون هامشاً في حياته ، فالرحلة بداخله أكثر مما يراها الآخرون من حوله، فبات مديراً لعدد من المدارس ، ثم مشرفاً تربوياً ، فهذه الخطوات التي كان يمضي إليها بثبات أخذته نحو همةٍ أخرى ، حتى أكمل دراساته العليا ، ونال شرفاً آخر في مسيرته التعليمية فأصبح الكيميائي دكتوراً جامعياً وعميداً لكلية التقنية في القنفذة ثم كلية النماص ، ثم محاضراً وشخصية أكاديميةً ملهمة ، فابن قرية (الحَدَبَة ) ، والذي نشأ يتيماً وتعهدت أمه الفاضلة بتربيته وتنشئته ، كتب سطوراً أخرى في مسيرة حياته العلمية والاجتماعية ، وكأن اليُتمَ في حياة الدكتور عبدالله جابر ، صوتاً يملؤه بالهمة ؛ ليوقظ بداخله روحاً وحياةً وشغفاً .
أستاذ الكيمياء حين تسلل المرض إليه لم تغب عن ملامحه الابتسامة البهية ، ولم تنطفئ جاذبيته وكيمياء الحياة في تفاصيله ، رغم (ارتعاشة) الزمن في عينيه ، إلا أنه بقي ثابتاً يتحدث بهدوء ويتجه حيناً نحو الصمت ، إلا أن عينيه كانت تفيض بالحياة رغم التعب ووجع ( الارتعاشة) التي أوقفت مسيرة أكاديميّ وكيميائي ، أشعل اليُتم طريقه حتى بات خالداً في ذاكرتنا.
رحم الله الدكتور عبدالله جابر ، وجَبَرَ مصابنا فيه.

محمد علي الفقيه الشهري
كاتب وأديب


اكتشاف المزيد من صحيفة صوت الوطن

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com